لخاتم بجوار المصباح.. الصمت.. الصمت يحل فتعمى الآذان.. في الصمت تتسلل الأصبع، يضع الخاتم..
في صمت أيضًا يطفأ المصباح، والظلام يعم..
في الظلام أيضا تعمى العيون، الأرملة وبناتها الثلاث، والبيت حجرة والبداية صمت..
الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة، في الخامسة والثلاثين، بناتها أيضًا طويلات
فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد، صغراهن في
السادسة عشرة وكبراهن في العشرين، قبيحات ورثن جسد الأب الأسمر المليء
بالكتل غير المتناسقة والفجوات، وبالكاد أخذن من الأم العود.
الحجرة، رغم ضيقها تسعهن في النهار، رغم فقرها الشديد مرتبة أنيقة، يشيع
فيها جو البيت وتحفل بلمسات الإناث الأربع، في الليل تتناثر أجسادهن
كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي، بعضها فوق الفراش، وبعضها حوله، تتصاعد منها
الأنفاس حارة مؤرقة، أحيانًا عميقة الشهيق.
الصمت خيم منذ مات الرجل، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل، انتهى الحزن
وبقيت عادات الحزانى وأبرزها الصمت، صمت طويل لا يفرغ، إذ كان في الحقيقة
صمت انتظار، فالبنات كبرن والترقب طال والعرسان لا يجيئون ومن المجنون
الذي يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كن يتامى؟ ولكن الأمل بالطبع
موجود، فلكل فولة كيال، ولكل بنت عدلها، فإذا كان الفقر هناك، فهناك
دائمًا من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك، فهناك دائمًا الأقبح، والأماني
تُنال أحيانًا بطول البال.
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا
انفعال، والتلاوة لقارئ، والقارئ كفيف، والقراءة على روح المرحوم وميعادها
لا يتغير، عصر الجمعة يجيء بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى
الحصير يتربع، وحين ينتهي يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها،
ويمضي، بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو
ينتبه إليه أحد.
دائم هو الصمت، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت،
دائم هو كالانتظار، كالأمل، أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل في الأقل،
دائمًا هناك لكل قليل أقل، وهن لا يتطلعن لأي أكثر، أبدًا لا يتطلعن.
يدوم الصمت حتى يحدث شيء، يجيء عصر الجمعة ولا يجيء القارئ، فلأي اتفاق مهما طال نهاية، وقد انتهى الاتفاق.
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم، ليس فقط الصوت الوحيد الذي
كان يقطع الصمت، ولكن أيضًا الرجل الوحيد الذي كان ولو في الأسبوع مرة يدق
الباب، بل أشياء أخرى يدركن، فقير مثلهن هذا صحيح، ولكن ملابسه أبدًا
نظيفة، وصندله دائمًا مطلي، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون،
وصوته قوي عميق رنان.
والاقتراح يبدأ لماذا لا يجدد الاتفاق ومنذ الآن؟ ولماذا لا يرسل في طلبه
هذه اللحظة؟ مشغول، فليكن الانتظار ليس بالجديد، وقرب المغرب يأتي، ويقرأ
وكأنه أول مرة يقرأ، والاقتراح ينشأ، لماذا لا تتزوج إحدانا رجلًا يملأ
علينا بصوته الدار؟ هو أعزب لم يدخل دنيا، وله شارب أخضر، ولكنه شاب
وبالكلام يجر الكلام، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال.
البنات يقترحن والأم تنظر في وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب
والاقتراح، ولكن الوجوه تزور مقترحة -فقط مقترحة- قائلة بغير كلام أنصوم
ونفطر على أعمى؟ هن ما زلن يحلمن بالعرسان، والعرسان عادة مبصرون مسكينات
لم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه
- تزوجيه أنت يا أماه، تزوجيه
- أنا ؟ يا عيب الشوم! والناس؟
- يقولون ما يقولون، قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال
- أتزوج قبلكن؟ مستحيل.
-أليس الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك؟ تزوجيه، تزوجيه يا أماه.
وتزوجته، زاد عدد الأنفس واحدًا، وزاد الرزق قليلًا، ونشأت مشكلة أكبر..
الليلة الأولى انقضت وهُما في فراشهما، هذا صحيح، ولكنهما حتى لم يجسرا
على الاقتراب، ولو صدفة، فالبنات الثلاث نائمات، ولكن من كل منهن ينصب زوج
من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما، كشافات عيون،
وكشافات آذان، وكشافات إحساس، البنات كبيرات، عارفات ومدركات، والحجرة
كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار، ولكن بالنهار لم تعد ثَمَّة
حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن ولم يعدن، إلا قرب الغروب، مترددات خجلات
يقدمن رِجلًا ويؤخرن رِجلًا، حتى يزددن قربًا، وحينذاك يدهشهن، يربكهن،
يجعلهن يسرعن ضاحكات، قهقهات رجُل تتخللها سخسخات امرأة، أمهن لا بد تضحك،
الرجُل الذي ما سمعنه إلا مؤدبًا خاشعًا، ها هو ذا يضحك، بالأحضان قابلتهن
ولا تزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك، وجهها ذلك الذي
أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة
أنارها هو ذا أمامهن كلمبة الكهرباء مضيء ها هي ذي عيونها تلمع وقد ظهرت
وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك، تلك التي كانت مستكنة في قاع المهجر.
الصمت تلاشى واختفى تمامًا، على العَشاء وقبل العَشاء وبعد العَشاء نكت
تترى وأحاديث غنَّاء، صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب، صوت
عال أجش بالسعادة يلعلع.
خيرًا فعلتِ يا أماه، وغدًا تجذب الضحكات الرجال، فالرجال طُعم الرجال،
نعم يا بنات، غدًا يجيء الرجال ويهل العرسان، ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها
ليس الرجال أو العرسان ولكنه ذلك الشاب كفيف فليكن، فما أكثر ما نعمى عن
رؤية الناس لمجرد أنهم عميان، هذا الشاب القوي المتدفق قوة وصحة وحياة،
ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.
الصمت تلاشى وكأن إلى غير رجعة، ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها وعلى
سُنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟ وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل
بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء وهم جميعًا معًا، فيطلق
العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن
وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن يحبسن الحركة والسعال،
تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات، كان نهارها "غسيل" في بيوت الأغنياء،
ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى
الحجرة ظهرًا، ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة
الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعداد لليل قادم، وذات مرة بعد
ما شبعا من الليل وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر،
ولماذا هي منطقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها؟ ولماذا تضع
الخاتم العزيز عليه الآن؟ إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة
وهدايا، ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنًا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة، كان ممكنًا أن تجن كان ممكنا أن
يقتله أحد، فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى،
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها، سكتت بآذانها التي حولتها
إلى أنوف وحواس، وعيون راحت تتسمع وهمها الأول أن تعرف الفاعلة إنها
متأكدة لأمر ما أنها الوسطى، أن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا
أطلق، ولكنها تتسمع الأنفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة، كأنها محمومة
ساخنة بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها أنفاس باضطرابها
تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراضي عطشى، والغصة تزداد عمقًا
واحتباسًا، إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن
تفرق بين كومة لحم حي ساخنة متكومة وكومة أخرى، كلها جائعة كلها تصرخ
وتئن، وأنينها يتنفس ليس أنفاسًا، ربما استغاثات، ربما رجوات، ربما ما هو
أكثر.
غرقت في حلالها الثاني ونسيت حلالها الأول، بناتها، والصبر أصبح علقمًا،
وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر، فجأة ملسوعة ها هي ذي كمن استيقظ مرعوبًا
على نداء خفي، البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم، أبدًا
ليس مثل الجوع حرام، إنها تعرفه، عرفها ويبس روحها ومص عظامها، وتعرفه
وشبعت ما شبعت، مستحيل أن تنسى مذاقه، جائعات وهي التي كانت تخرج اللقمة
من فهما لتطعمهن، هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن، هي الأم،
أنسيت؟ وألح مهما ألح تحولت الغصة إلى صمت، الأم صمتت، ومن لحظتها لم
يغادرها الصمت..
وعلى الإفطار كانت، كما قدرت تمامًا الوسطى صامتة وعلى الدوام صامتة،
والعشاء يجيء، والشاب سعيدًا وكفيفًا ومستمعًا ينكت لا يزال، ويغني ويضحك
ولا يشاركه إلا الصغرى والكبرى فقط..
ويطول الصبر ويتحول علقمه إلى مرض، ولا أحد يطل وتتأمل الكبرى ذات يوم
خاتم أمها في إصبعها وتبدي الإعجاب به، ويدق قلب الأم دقاته وهي تطلب منها
أن تضعه ليوم، لمجرد يوم واحد لا غير، وفي صمت تسحبه من إصبعها، وفي صمت
تضعه الكبرى في إصبعها المقابل، وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى
النطق، والكفيف الشاب يصخب ويغني ويضحك، والصغرى فقط تشاركه ولكن الصغرى
تصبح بالصبر والهم وقلة البخت أكبر، وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم،
وفي صمت تنال الدور.
الخاتم بجوار المصباح، الصمت يحل فتعمى الآذان، وفي الصمت تتسلل الإصبع
صاحبة الدور وتضع الخاتم في صمت أيضًا، ويطفئ المصباح والظلام يعم، وفي
الظلام تعمي العيون، ولا يبقى صاخبًا منكتًا مغنيًا، إلا الكفيف الشاب.
فوراء صخبة وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه
تكسيرًا، إنه هو الآخر يريد أن يعرف، عن يقين يعرف، كان أول الأمر يقول
لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحدة!
فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى، ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى!
الخاتم دائم وموجود صحيح، ولكن الإصبع التي تطبق عليه كل مرة تختلف، إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد
كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت؟ لماذا لا ينطق؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت؟ ماذا لو تكلم
مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه، ومن لحظتها لاذ بالصمت تمامًا وأبى أن
يغادره، بل هو الذي أصبح خائفًا أن يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت، ربما
كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله، والويل له لو انهار بناء
الصمت، الصمت المختلف الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل الصمت الإداري هذه
المرة، لا الفقر، لا القبح، لا الصبر ولا اليأس سببه،
إنما هو أعمق أنواع الصمت، فهذا الصمت المتفق عليه أقوى أنواع الاتفاق، ذلك الذي يتم بلا أي اتفاق.
الأرملة وبناتها الثلاث
والبيت حجرة
والصمت الجديد
والقارئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن
شريكته في الفراش على الدوام هي زوجته وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى
مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هذا شأن
المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين، إذ هم القادرون
على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك، شك لا يمكن أن يصبح يقينًا إلا
بنعمة البصر، وما دام محرومًا منه فسيظل محرومًا من اليقين، إذ هو الأعمى،
وليس على الأعمى حرج، أم على الأعمى حرج؟؟
_________________
هناك عظمة ما في أن نغادر ونحن في قمة نجاحنا، انه الفرق بين عادة الناس، والرجال الاستثنائيين!
- زياد، أحد أبطال رواية "ذاكرة جسد"-
.................................................. .................................................. ........
يوسف ادريس في سطور..
•ولد يوسف ادريس عام 1927 فى احدى قرى محافظة الشرقية.
•تخرج من كلية الطب جامعة القاهرة عام 1951.
•بدأ في نشر قصصه القصيرة عام 1950 .
•صدرت أول مجموعة قصصية له (أرخص ليالي) عام 1954 ,تلتها رواية (العسكري الأسود) عام 1955.
•حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1991 ورحل في العام نفسه.
•من أبرز مؤلفاته فى القصة القصيرة: أرخص ليالي – حادثة شرف – النداهة –
لغة الأي أي – العتب على النظر – بيت من لحم – أقتلها – قاع المدينة – آخر
الدنيا – رجال وثيران.
فى الرواية: نيويورك 80 – العسكري الأسود – العيب – الحرام – البيضاء .
فى العمل المسرحي: جمهورية فرحات – ملك القطن – اللحظة الحرجة – الجنس الثالث – المخططين .
_________________
هناك عظمة ما في أن نغادر ونحن في قمة نجاحنا، انه الفرق بين عادة الناس، والرجال الاستثنائيين!
- زياد، أحد أبطال رواية "ذاكرة جسد"-
...........................................
أشعر بأن ما فعلته لتوي – وأعني بذلك التعرض لحياة الكاتب يوسف ادريس في سطور – حماقة لا تغتفر!
ففور الانتهاء من تنضيدها في نقاط ست , أكتشف الآن مدى اصابتها بعقم لا
تستطيع معه أن تشير – ولو من بعيد – الى ماهية الرحلة فى حياة يوسف
ادريس.. ومن يستطيع التعرض للعبقرية ولو تعرض بكتابة ألفا من النقاط؟!
فمعذرة..
ربما أردت بتلك المحاول أن أمهد لحديثٍ جاد يرتكز كلية على الموضوعية
وتناول فن التعبير ومنطقة الحدث بعيدا عن اهتزاز الرؤى, ولكنني الآن أجد
في التعبير عن شديد الانبهار والاعجاب بفن يوسف ادريس مناطا لموضوعية
الحديث, بل أنه أمر لا مجال لتجاوزه وان عجزت الكلمات والتعابير ,,فابداع
يوسف ادريس فى تناول فكرة ما والقدرة الفائقة على التجسيد جميعها حقائق
ساطعة لا شك فى يقينها , وعليه كانت الحقائق دوما أنسب البدايات!
بيت من لحم .. واحدة من روائع يوسف ادريس التى ربما اختلفت فى طبيعتها بعض
الشئ عن دونها من كتاباته من حيث الفكر والمضمون امتدادا الى الانطباع
العام - ولنا فى ذاك حديث لاحق - , فكان لهذا الاختلاف رب سبب فى تميزها
بما أضافت من بعد جديد لشخصية يوسف ادريس القصصية,, ما أستطيع تأكيده هو
تميزها كتجربة, ومن ثم استحقت نشرا ومتابعةً بالتعليق..
_________________
هناك عظمة ما في أن نغادر ونحن في قمة نجاحنا، انه الفرق بين عادة الناس، والرجال الاستثنائيين!
- زياد، أحد أبطال رواية "ذاكرة جسد"-
...........................................
بيت من لحم ... انطباع أول :
- قبل أن أتعرض لقصة "بيت من لحم" بالقراءة , كان اسم مؤلفها الاستاذ يوسف
ادريس أكبر عامل جذب بالنسبة الي, أيقنت بأنني مقدمة على تجربة من نوع
فريد يتسم بخصوصية أسلوب العرض والهدف , واقع اجتماعي ليس بجديد , فلطالما
مررنا عليه مرور الكرام فى حياتنا اليومية التى اعتدناها كما اعتندنا
حتمية الوجود , ولطالما اتخذ يوسف ادريس موقفا مغايرا تجاه ذات الواقع ,
موقف استطاع أن يفسر حتمية ذات الوجود. كما أن لامتلاكه كافة أدوات الفكر
واللغة الفضل الكبير فى تمكنه من تسجيل ذلك الواقع فى قصص قصيرة ذات أبعاد
متعددة , نذكر منها البعد الاجتماعي والبعد الأخلاقي والبعد الثقافي,
امتدادا الى ما وراء البعد. وقد تعرضنا لذلك بالاشارة سابقا.
- نظرة سريعة الى جل قصص يوسف ادريس – أو ما استطعت أن أدركه منها حتى
الآن – أستطيع أن أرسم خطا رئيسيا لاسلوب تناول فيه مواقف اجتماعية بطريقة
العرض والنقد معا ,وصولا الى قيم انسانية كفيلة بحل القضايا الاجتماعية
المعنية بصورة أو بأخرى.
- أشعر أن "بيت من لحم" قد انْتُهِجَ فيها نهجا مخالفا, فعلى الرغم من
اتفاقها مع دونها من قصصه فى نفس البداية أو نفس الأساس وهو " القضية
الاجتماعية" التى تمثلت هنا فى مشكلة العنوسة , ولكني أشك تمام الشك أنه
أراد لفت الأنظار تجاه تلك المشكلة بجوانبها المحددة فى البعدين الاجتماعي
والنفسي , كما أرجح أن عبقرية يوسف ادريس أقدر على سبر أغوار أعمق اذا
اقتصر الهدف على تسليط الضوء على المشكلة مجردة. لذا أعتقد أنه وظف القضية
الاجتماعية فى بناء قصته تحت مسمى "المادة الأساسية - The Matrix" ليعبر
عن قضايا انسانية أشمل فى المفهوم أخصها هنا بقضايا الصمت وارتباطها
بوضعية الحرام والحلال , قضايا لا سبيل للتعبير عنها أو تبسيطها سوى
بقولبتها في قصة واقعية, اذ لا مجال هنا لانتهاج الأسلوب التجريدي في
العرض.
- الصمت .. كلمة تكررت في عدة مواضع من القصة , تم فيها تناول أنواع مختلفة من الصمت:
1-صمت البداية : و البداية كانت بوفاة رب الأسرة , يزول الحزن وتبقى عادات
الحزانى ومن أبرزها الصمت. ولكننا هنا بصدد الحديث عن بداية مابعد النهاية
, فنجد أن الصمت ماكان الا لسان حال الأمل , الأمل بقدوم عرسان طالت
غيبتهم وان كن فقيرات قبيحات.
2-صمت يقطع الصمت : وقد كان بتلاوة قارئ عصر الجمعة , قد يكون للتلاوة صوت
, ولكنه صوت يتصاعد فى روتين, لا جدة فيه ولا انفعال.. القارئ بالتعود
يجيئ ..بالتعود يقرأ .. وبالعادة يمضي حتى أن أحدا من أهل الدار ما كان
ليشعر به. ابدا لم يكن صوتا , فصوت بصفات مشابة لا يستطيع أن يحدث أدنى
أثر لهو صمت فى صورة بليغة من صوره.
3-صمت نُفِيَ : تَمثل في زواج الأم من القارئ الكفيف فدب ضجيج الحياة
بالمنزل .وعلى الرغم من ذلك, لا نستطيع أن نوكل بالصمت الى تلاش بلا رجعة,
فطبيعة تناولنا للأحاديث هي صمت يقطعه كلام ثم صمت . وتطبيقا على واقع
القصة فان البنات الثلاثة مازلنا فى الانتظار, وان انتفى حادث الصمت طيلة
النهار فانه يطبق بأجنحته على الغرفة ليلا.
4-صمت تسلل : وهو ذاك الذي ارتبط بوقوع الخطيئة الأولى ليشمل الأم والابنة
الوسطى ,ثم الابنة الكبرى فالصغرى على الترتيب.صمت مارسته كل منهن عندما
أقدمت على وضع الخاتم فى اصبعها. كان واقع الحرام كفيلا باثقال النفوس فلم
تعد تقوى على نفي الصمت.
5-صمت مطبق : عبر عنه الكاتب فى مسميات عدة منها الصمت الارادي, والصمت
المتفق عليه دون اتفاق , وأقوى أنواع الصمت. البداية سُطِرَت بانضمام
الكفيف الى كتيبة الصمت , الذي ماكان انضمامه الا خوف من أن يمس جدار
الصمت .. فماذا لو تكلم الصمت ؟ بم سيبوح ؟ مجرد تفكيره فى انغماسه فى
الحرام حتى شمحمة أذنيه يجعله يلوذ بعباءة الصمت أكثر فأكثر, ليس ذلك فقط
, بل وينكر على نفسه يقين احساسه بالموقف لعدم ابصاره , فيلقي باللوم – ان
كانت هناك مدعاة للوم – على المبصرين وحدهم.
_________________
هناك عظمة ما في أن نغادر ونحن في قمة نجاحنا، انه الفرق بين عادة الناس، والرجال الاستثنائيين!
- زياد، أحد أبطال رواية "ذاكرة جسد"-
....................................
ولد يوسف ادريس عام 1927 فى احدى قرى محافظة الشرقية ، تعلم فى المدارس
الحكومية و التحق بعد دراسته الثانوية بكلية الطب فى جامعة القاهرة التى
تخرج منها عام 1951 .
عايش ظهور و تطور التيارات الفكرية و السياسية الوطنية و تاثر بالفكر الماركسى .
بدأ نشر قصصه القصيرة عام 1950 فى الوقت الذى كان يتردد فيه الأدب المصرى
القصصى بين نزعة وجدانية و نزعة تميل الى تطبيق الحرفى لأتجاهات علم النفس
التحليلى .
صدرت مجموعته القصصية الأولى ((أرخص ليالى )) عام 1954.
ظهرت موهبة ادريس فى مجموعته التالية ""العسكرى الأسود "" التى صدرت عام
1955 والتى وصفها أحد النقاد بأنها تجمع بين سمات (دستوفسكى ) وسمات
(كافكا) .
تستند رؤية أدريس الأدبية و الفكرية الى حساسية فائقة و ادراك نافذ ذاتى
للغاية لمظاهر الوجود الأنسانى و حقائقه ويقول عميد الأدب العربى ( طه
حسين ) أجد فيه من المتعة و القوة و دقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة و
براعة الأداء مثل ما وجدت فى كتابه الأول (أرخص ليالى )على تعمق للحياة
وفقه لدقائقها و تسجيل صارم لما يحدث فيها الى جانب اهتمامه بالقصة
القصيرة التى يعتبر أبرز ممثليها فى الأدب العربى اهتم بالرواية و الكتابة
المسرحية و من أعماله المسرحية (ملك القطن/جمهورية فرحات /اللحظة الحرجة/
الجنس الثالث/ المخططين/ البهلوان) .
انشغل يوسف ادريس فى السنوات الأخيرة بعدد من القضايا الثقافية و
الأجتماعية الساخنة و حصل على جائزة التقديرية فى الأداب عام 1991 وفى
العام نفسه رحل يوسف ادريس ليترك بصماته على تطور القصة العربية وتأثيراته
الظاهرة على عدد من الأدباء الشبان والعالم العربى .
من أبرز مؤلفاته فى القصة القصيرة ( بيت من لحم/ لغة الأى أى/ العتب على
النظر/ أقتلها/ قاع المدينة /النداهة/ رجال وثيران/ حادثة شرف/ أخر
الدنيا/ أرخص ليالى) .
وفى الرواية:
( نيويورك 80 / العسكرى الأسود / العيب/ الحرام/ البيضاء/ جمهورية فرحات).
عرض فى غاية الروعة .. فقد تناولتِ كتاب " بيت من لحم " بروعة متناهي واسترسال فى السرد لم أحس معه بالرتابه مطلقاً ..
وأنبهرت لقدرتكِ فى الجذب واستخدام عامل التشويق فى عرض الكتاب .. وقدرتكِ
التمهيدية للتحدث عن الكاتب ومما يهدف إيه والقضيه التى يناقشها من خلال
كتابة ..
وقفت مشدود النظر لحالات الصمت التى تفننت فى الالتفات إليها .. وتقسيمكِ لانواع الصمت بالكتاب ..
.................................................. ........
لطالما عشقت كتابات يوسف إدريس و ذبت فيها و امتصصطها حتي النخاع و قرأت
أعماله مرات و مرات و إن كنت لم أستطع أن أكتب نقدا جادا لأعماله أو لأحد
أعماله فعذري في ذلك أنني مازلت في مرحلة الانبها و التحليل منذ أكثر من 6
سنوات !!
و لكن لفت نظري هذا المقال الذي يتناول يوسف إدريس و أعماله و أسلوبه و
يحتوي علي كثير من أرائي الخاصة , و أود أن نناقش ذلك المقال بالتفصيل إذا
سمح وقتكم .
و إن كان في منتدانا قسم بعنوان " هذا الكاتب أحبه " لملئته كلاما عن هذا
الرائع المدهش الذي طالما و مازال يدهشني حتي و إن كنت أرأه للمرة العشرون
.
فتعالوا معي نقرأ ذلك المقال ...
حقا من منا يستطيع أن ينكر إننا كنا يوما نحيا نهضه أدبيه ..
من منا ...لم يسمع عن نجيب محفوظ الذي جاء فوزه بجائزه نوبل تكريسا لجهود جيل كامل ..كتب و عبر بقوه عن أفكار جيل كامل ...
من منا لم يسمع عن يحي حقي و أنيس منصور و شعراء الكوخ ...و الجندول و أمل دنقل
من منا لم يسمع عن توفيق الحكيم " ديكنز وادي النيل" الذي ترجمت أعماله
إلي معظم لغات العالم " أهل الكهف...حمار الحكيم ...يوميات نائب فب
الأرياف ..."
من منا لم يسمع عن عبقريه العقاد.....و عبقرياته المتعدده التي هي من وجهه نظري تحتاج لعمل جاد يطلق عليه مثلا " عبقريه العقاد"
من منا لم يعش في رحاب يوسف السباعي و بين يدي إحسان عبد القدوس ...
من منا لم يتوقف أمام العبقريه الفذه لكل منهم ....وغيرهم الكثيرين ...الذين أثروا المكتبه العربيه بروائعهم .....
يجب أن نتوقف و نعود إلي أرفف المكتبه القديمه لننفض الغبار عن أعمالهم و عبقرياتهم ...و نتوقف طويلا متأملين .....
كيف صاغ هؤلاء الرجال تلك العبقريه .....
كيف ضاهوا بأعمالهم ..أعمال عمالقه الأدب البريطاني ...و الأمريكي
فلدينا ديكنز يقف أمام ....توفيق الحكيم
و برنارد شو الأمريكي يقف أمامه .....يوسف عوف ....و السعدني..
و لكل منهم إذا تحدثنا سنفرد صفحات طوال و لو حتي توقفنا أمام كل روايه ....
هل نتحدث عن " نائب عزرائيل و حائر بين الحلال وو الحرام ...هل نتحدث عن
عبقريه محمد و عمر و المسيح أم نتوقف أمام صح النوم و قنديل أم هاشم
......أو نبحر في العالم المتألق بالعجب في حول العالم في 200 يوم "
لا هذا و لا ذاك
سأصحبكم معي هنا في نورماندي و عبر السفينه التي تتأرجح في ذلك الجو
الهاديء الغير ملبد بالغيوم .....إالي تلك المملكه هناك....نعم إنه
ينتظرنا ..
في عالمه الخاص الذي صنعه بيده .....
إلي يوسف أدريس
لماذا هو عالمه الخاص....؟!!
من قراء منكم للرهيب إدجار الاّن بو...؟
من أبحر في عوالمه المخيفه الكئيبه المثيره و المستفزه بالمشاعر الإنسانيه ...
من منكم لم يبحر في عوالم أجاثا كريستي برجلها هيركيول بوارو
أو بعوالم موريس لبلان و رجله أرسين لوبين اللص الظريف و عوالم بول
هيريجيه و ديفيو و عوالم العميل 007 بكاتبه أيان فلمنج و الدكتور نبيل
فاروق بعوالمه المثيره
و في دنيا الخيال لكل من هؤلاء مملكه حيثما ذهبتا " أليس و عبير عبد الرحمن ذات يوم"
فماذا وجدتا في فانتازيا و جدت أن لكل مملكه عنوانها هذه مملكه ديزني مثلا
حيث تجد بطوط يسير بعصبيته الشهيره بجانب العم دهب و الأطفال الثلاثه
يتقافزون في الخلف
و و لا تندهش إذا رأيت بعض الرجال يحملون المشاعل و يتشحون بالسواد..و
يسيرون في صحراء قاحله فهذا عالم شادي عبد السلام و عنوان المملكه تحمل
أسم المومياء يجاورها عساكر التاج البريطاني تطلق النار علي الفلاحين
البسطاء فهذا جزء من عوالم عبد الرحمن الشرقاوي التي تحمل اسم الأرض
و إذا استمعت إلي دوي الرصاصات فلا تخف هذا حتما أدهم صبري يطارد سونيا جراهام في إحدي مغامراته في مملكه رجل المستحيل
قف
هذه مملكه يوسف أدريس
ولد يوسف أدريس في 19 مايو عام 1927 .....
بإختصار ...هو مبدع و مؤسس القصه القصيره المصريه العربيه و قطب مرموق للغايه من عائله كتاب القصه القصيره العالميه ..
لا يقل بإنجازاته بأي حال من الأحوال عن تشيكوف و هيمنجواي و موبسان ..
هذا الدور هو المقابل للدور الذي لعبه نجيب محفوظ في تأسيس الروايه
المصريه
و لدينا ما يثبت هذا أعزائي بشيء من التفصيل
و بالرغم من إبداعات العديدين من كتاب القصه القصيره مثل محمود تيمور و
طاهر لاشين و يحي حقي و محمود البدوي و سعد مكاوي " الرجل و الطريق " إلا
أن إبداعاتهم تأثرت كثيرا بالأسلوب الأوروبي
القصه القصيره عاده ما تكون وليده الطبقه المتوسطه و المدن الصناعيه و في
هذا الوقت كان أشد الكتاب و البارزين في عالم القصه القصيره الاوروبي هم "
تشيكوف " الروسي و "جي دي موبسان " الفرنسي لذا فقد قدم الكتاب السالف
ذكرهم القصص المصريه القصيره من بيئتنا القحه مثل قنديل ام هاشم و غيرها و
لكن الأسلوب حقيقه كان أوروبي بحت و بالأخص محمود تيمور الذي تأثر بأسلوب
جي دي موبسان كثيرا في قصصه حيث يعتمد موبسان علي أسلوب النهايات الغير
متوقعه و التي وجدت صداها لدي الجمهور و الذي كان يتحفز للنهايه واضعا
كلمه " ماذا بعد؟!! نصب عينيه "
أما يوسف أدريس فكان تعبيرا مجيدا في إنجازه النضالي و السياسي لثوره
يوليو 1952 و في صعودها الناصري لتحقيق الإستقلال السياسي و الإقتصادي
بتأميم شركه قناه السويس و التمصير و بناء السد و غيرها من المواقف
الوطنيه الشجاعه لناصر و كلها أنعكست عليه في أول أعماله " أرخص ليالي
1954" و نهايه بأخر أعماله " العتب علي النظر" في أواخر الثمانينات فقد
حقق مصريه القصه القصيره في البناء و الشكل و أساليب الحكي و السرد و
تقنيات الكتابه القصصيه النابعه من خصوصيه المزاج المصري ببعده الإنساني
لذا فقد أكتمل الثالوث المصري العربي في القصه القصيره ليقف شامخا أمام "
تشيكوف موبسان و همنجواي" متمثلا في " يوسف أدريس و يوسف الشرروني و
إدوارد الخياط"
درس الطب و تخرج من قصر العيني بدأ كهاو 1950 في مجلات "القصه و قصص للجميع"
و أصبح من كتاب جريده المصري 1952 و أختارته روزاليوسف مشرفا علي القصه فيها فيما بعد أيام إحسان عبد القدوس
و إليكم بعض المشاهد الأدريسيه ....
بعض من الخواص المصري التي عبرت عن واقع ما في كتاباته كانت في المجموعه
القصصيه "النداهه" و مسرحيته "المخططين" " الاي اي "" الفرافير"" المهزله
الأرضيه "
و في عالم اخر أكثر غموض في الحياه المصريه عبر أدريس في قصصه " المرتبه المقعره "النقطه"العمليه الكبري" و دستور يا اسيادنا"
و نشير الي مجموعاته التي أمتلئت بالحيل و الأعاجيب و التي تضمنتها " أرخص
ليالي و حادثه شرف و جمهوريه فرحات و قاع المدينه..حادثه شرف و اخر الدنيا
و العسكري الأسود و مسرحيات ملك القطن و اللحظه الحرجه"
عبر عن الغموض و الرعب و الأشمئزاز بكلماته " العيب و الحرام و الشرف"
و عن البراءه في" اخر الدنيا –هي"
أحيانا قد يختلط أسلوب يوسف أدريس ملياء بالتناقض بين ضعف الإنسان و محاولته أن يبدو قويا متماسكا بين السمو و الإنهيار
و لكن هل موهبه يوسف أدريس طغت علي كتاباته أم الكلمات الجنسيه التي أحتوت كتاباته قد جعلت منه و كإنه يندفع للكسب ..؟!؟!!
ما رأيكم أنتم ؟
لا عليكم سنحاول أن نجيب علي هذا مؤخرا
معظم كتابات يوسف أدريس لم تكن تدور في أسلوب سرد مثلا متواصل بل كانت
عباره عن صوره ...فقط صوره يقوم هو برسمها و علي القاريء ان ينعم
بتفاصيلها
لا أدري شعوري الشخصي أن يوسف أدريس كان يكتب لنفسه ...حاولوا أن تفهموها كيفما شئتم ..
و الكاتب يضعنا دائما في جسد مليء بالحياه و الحيويه في النداهه و العمليه الكبري و دستور يا اسياد
و نذهب للنداهه مشهد حامد القروي و الذي يجد زوجته ملقاه بين أحضان رجل
علي الأرض و لا يبقي إلا الرعب و انتحاب الصغير و قتل البراءه و كل
الأحلام التي جذبته للقاهره و يحيل الكاتب التفاصيل المحسوسه في عمق هذا
الموقف لدلالات موحيه بالعجز و القهر أن ثمه قوي مجهوله تسيطر علي أرواح
البسطاء في القاهره و هي هنا علي مستوي المحسوسو الصوره لكل الأفنديه فلقد
كان صوتا قبل ان تسافر مع حامد صوتا يقول انها ستقع و بكل اراده قاومت و
لكنها سقطت لماذا سقطت...؟؟
كان هذا لتعبير الرهيب هو انها شعرت بأن مدينه كامله تتسلل إليها و في هذه للحظه دخل زوجها ....
و تعود هي بعد ذلك إلي القاهره بدون نداء النداهه و لكن بإرادتها هذه
المره و عندها يعود حامد للريف لكي يفر من المدينه مدينه الخسه و النذاله
و السقوط يحدث في دستور يا اسياد...
فهي أم مسنه لبنت متزوجه و طبيب و صاحب وكاله تأجير سيارات و تشكي من الوحده و تعاني من الخوف بعد موت زوجها ......و تخاف من الخارج
و ينصحه أبناءها للخروج هذا يوم للحسن و يوم اخر للسيده و هكذا و ترتبك و تخرج
و ترتعد فهي تخاف العالم الخارجي بعد موت زوجها و هي تشعر أن ثمه شيء ما
سيحدث و تقع أمام الحشود المزدحمه و تشعر بتلك اليد تتحسسها لكي تجعلها
تقاوم السقوط و ترتعد أوصالها كم هذه اليد حانيه عليها .....و بدأت تشعر
بالسقوط و أنها تتضاءل ة تتاّكل و ينتهي الأمر بذهابها فيحجرته لكي تستريح
و هنا تحين لحظه السقوط الحقيقيه
ماذا أراد يوسف أدريس من هذه القصه أراد تدمير الأم رمز الطهاره و
الكبرياء أم أراد توجيه صفعه إليي الابناء تحت شعار " طب خليكوا كده محدش
يسأل علي أمه و أنتوا المسئولين"
أم أراد أن يبين أن المرأه دوما تحتاج إلي رجل
أترك لكم الإجابه و لكنه تميز بالشراسه في هذه القصه الشراسه و الوقاحه الأدبيه من وجهه نظري.يتبع
في أدب يوسف إدريس عديد من الظاهر ذات الدلالات تغري الناقد بالوقوف عندها طويل صامتا يفكر برهه و يحاول أن يسبر أغوارها
و من العوالم التي أعطاها يوسف أدريس حقها هو عالم الطفوله و الصبا هذا
العالم المليء بالشفافيه الغامضه المثيره إنه يعبر عن أعماق نفس الصبي
المصري بأصاله الفنان و يرصد حركه الحياه الدائمه علي وجدانه الشفاف
فكانت هناك قصص تقوم علي التساؤل العميق للمعني الخفي وراء بعض مظاهر
الحياه أو الأسباب الكامنه خلف بعض الظواهر الطبيعيه في قصه "الرأس"
المشنوره في مجموعه " العسكري الأسود" يثبت ما أريد قوله
القصه تبدأ بتساؤل صبي يمر بفتره المراهقه عن سر شغفه للخروج إلي الحدائق الواسعه و الحقول و السير علي الترع .
و كان دائما ما يبهره هذا الجو الساحر المتخم بالنباتات و ثمه رائحه جميله
تتسلل إلي أنفه و هو يتهدي بحطواته قد تكون رائحه الطمي ربما أو رائحه
الزهور ربما أيضا هنا تتجسد لدينا عشق الطبيعه و هو ما يريد الكاتب أن
يبينه لنا بوضوح و يخرج غريزه حب الطبيعه من أعماقنا
الصبي يعثر خلال جولته علي رأس السمك و هو الذي كان يحلم به دوما ...و ما
أكثر الأساطير التي كانت تملاء ذهن الأطفال في القريه ذاك الوقت عن السمك
و لكنه لم يصدق معظمها و لكنه صدق هذه الأسطوره " رأس السمكه" و هي عن
رجال أصطادوا تلك الرؤوس و باعوها و اصبحوا من أغني الأغنياء لقد وجد
الصبي قافله ضخمه من السمك أحدهما صغر و الأخر كبير بهرته صفوف السمك
المنتظمه التي لا يعلم سرها أحد
هنا لا بد لنا و بأسلوب يوسف أدريس الساحر ان ننزل إلي عقل الصبي و نفكر
بذهنه و ننبهر .....حقا أين تذهب تلك القافله ؟و بأي بوصله تعرف طريقها؟!!
بساطه يوسف أدريس هي نبع حقيقي لمن يريد الوصف و يحاول الطفل أن يقطع طريق القافله يرمي لهم الخبز مثلا ..و السمك يتجاهله
و هنا تتوقف سمكه عن السير و تلتقط الخبز المبتل فيتجاهلها باقي القطيع ثم
تتقدم سمكه من الصف الأخر لتأخذ هي المقدمه ...و عادت القافله لسيرها
المتحمس و كرر نفس الأمر و في كل مره تتولي سمكه قياده القافله ...و
الكاتب هنا يستعرض نظام رائع و يترك الطفل مستمرا في حيرته ..كيف لها بهذا
النظام القاريء و القاريء يستعجب لكلمات يوسف إدريس و يذهب الطفل بحيرته
باحثا عن بيض حمام أو عيش غراب .
و في قصه" رمضان" بمجموعه " جمهوريه فرحات .." يستعرض قصه الطفل الذي يريد
ان يصوم رمضان و ابوه لا يسمح له قائلا " لاا صيام لمن لا يصلي " و عندما
يبدأ في الصلاه يجد مشاكل لا حصر لها مثل شك أبوه في وضوءه و طهارته و
عندما يذهب للجامع وجد الكبار يتربصون له كي يخطيء و يستهزؤون به و كل هذا
كي يحضر الطفل السحور مع أبويه في رمضان و يقابل فتحي مشاكل جمه فيستيقظ
صائما يواجهه العطش و يذهب الي المياه فيتذكر صيامه فيزداد عطشه و يجف
حلقه تماما ...و جرب ان ينام و فشل و كلما حاول ان ينسي العطش يتذكره و
هنا أدركم صعوبه الطريق الذي أختاره فها هو سينتظر 5 ساعات حتي الإفطار
...و يوسف هنا يستدرجنا إلي مرحله الطفوله حقا ...كم منا افطر في الخفاء
.....!!
و هنا يتجسد لفتحي رمضان ككائن حي في ذهنه أنه سيبطش به إذا افطر و يتحداه
بإنه سيشرب كيفما شاء و هنا يتذكر والديه فالصيام الان اصبح خوفا من
الوالدين و ليس خوفا من رمضان نفسه و يستمر فتحي صائما خوفا من الأبوين
و يصحبنا يوسف أدريس في عوالمه
بيت من لحم و لماذا يا لي لي تضيء لي تورا
و كلها عوالم مقززه للنفس و من تلك النوعيه من القصص التي تجعلك ...غير
راض عن اّدميه الأبطال و لكنهم أبطال هل تدركون حجم المعضله؟!!!
و هنا نصل إلي "نيويورك 80"
و نسأل أنفسنا هل أنتهي عصر يوسف أدريس هل تعثر ؟!!!
هل هو مبدع ينتهي أم مبدع يتعثر ؟!!
الباحث في أدب يوسف يجد إنه يدور في ثالوث
الله
السلطه
الجنس
و قد تبلور في مجموعه بيت من لحم ....و لا شك أن الثالوث السالف ذكره يظل ملازما للإنسان حتي الموت
الدين
السلطه
الجنس
و لقد ظهرت فكره الدين ي قصصه
" قبر السلطان و القيامه لا تقوم و شيخوخه بلا جنون و أكبر الكبائر و لماذا لا تطفيء النور يا لي لي "
وو مؤخرا قبل وفاه يوسف أدريس كتب روايه وهوه ما نطلقه عليها تعسفا كلمه
روايه و هي نيويورك 80 كتبت في ملحق الأهرام و نشرت مع مجموعته الكامله
...
ان تلك القصه يختلط فيها الحوار الدرامي مع السرد بأسلوب يثير الأشمئزاز ...
فهو يلتقي بهي فهو في نيويورك و هو بن العالم الثالث و هي قد أختارته لكي
يكون جليسها رافضه دعوات الكثيرين " يبدو أن يوسف أدريس يعتز بشرقيته في
تلك الروايه " و علي رأي محمد صبحي في مسرحيه الهمجي عندما قال للبت
الخوجايه " I'm' Egyptian "
و هنا يعلن لها رفضه و إحتقاره فلا شيء اسواء من بيع الجسد و يقول البطل "
يجب ان اكون صريحا معك فأنا أحتقرك و أحتقر نوعك " و هي تسمع و تستوعب و
لكنها لا تغضب و يقول لها إنه علي استعداد علي ان يرافق غوريلا و لا
يصطحبها ....
ثم يتأملها علي غرار أفلام يوسف شاهين فهي ملطخه بالمساحيق كأي عاهره محترمه ...
و لنتوقف قليلا فأنت تقف أمام شيء لا تدري هل هي مسرحيه أم روايه ...
المهم و في تسلسل سخيف للأحداث يستسلم هو لهي ....و كان البغي هوه المنتصر بعد أن أخذت تطاردته في غرفته و هكذا ....
أيا كان فنيويورك 80 تجربه أدبيه ينقصها الكثير من الضج و التوهج الذي
عودنا عليهما يوسف أدريس و كان واضحا في تلك الفنره إنه يعيش أزمه لإن تلك
الرةايه سبقتها روايات أخري أكثر مللا مثل " افتح القلب " و " الرجل و
النمله"
و ننتقل لجزء اخر في أدب ادريس ...
و لكننا قبلا نتحدث عن تشيكوف ز موبسان عندما تحدثا عن الجنون ...
تشيكوف في قصه " عنبر رقم 6" و " الراهب الاسود"
جي دي موبسان كتب عن مأساه الجنون حتي ليقال إنه أنتهي الأمر به شخصيا غلي الجنون
ناهينا عن " إدجار الان بو" .....
فهؤلاء الأدباء غاصوا بأقلامهم في النفس البشريه حتي أصابهم الجنون ..حتي همنجواي الذي أنتحر .....
همنجواي الذي كتب العجو ز و البحر و كأنه يحدث نفسه فيها ....
فهؤلاء الأدباء تشتت أقلامهم في فوضي النفس ...
و يطالعنا في عوالم يوسف أدريس الجنون ...في قصه " ذي الصوت النحيل "
و قصه "مشوار" الرائعه مع شبراوي عسكر البوليس في الريف المصري الذي يحلم
دائما بأن يبيع عمره علي ساعه يقضيها في مصر و يأتي الفرج عندما يقوم
بتوصيل زبيده المجنونه الي مصر و في الطريق تضعه في مواقف مخجله تاره تريد
أن تخلع ملابسها و تراه تريد أن تزغرد و تصرخ قائله " يسقط عمده بلدنا
..يعيش جلاله الملك أبو طاقيه "
و يتجمع الركاب حول شبراوي العسكر و تتحول البذله إلي كومه عرق ...و تتطور
الأحداث و يواجه شبراوي الروتين و هو يجذب زبيده التي تخلع ملابسها فجأه
...أمام الطبيب فيهوي علي وجهها بصفعه ....و تدخا زبيده المستشفي ..و
يلحقها شبراوي الذي يحس أن زبيده ليس لها دخل فيما حدث إنها مجنونه
...يلحقها حاملا معه الخبز و هو يقول للتمرجي " و النبي توكلها و تخلي
بالك منها ..أعمل معروف و حياه اللي ماتولك اوتصا بيها .."
و يقول أخيرا
" و يمضي شبراوي من المحافظه إلي المحطه و قد شبعت نفسه من مصر و من الدنيا "
و أخيرا ...
بعد أن قمت بإستعراض عدد من أعمال يوسف لأبين منها كيف تشكلت رواياته ...
لي رأي..
رأيي أن يوسف أدريس لم يتأثر بأي مدرسه سابقه في القصه ..لإنه أولا بدأ هاويا و لم يدرس الادب في حياته قط....
و لكنه كان نبع من الطاقه المتدفقه .. ظل هكذا و حتي إن واجاهته عثرات..
و في الكثير من الأحيان لا تعجبني أعمال يوسف أدريس .....و لا أفكاره فهوه
متمرد دائما ..و دائما في قصصه تغلب عليه نزعه الشر فالشر دائما ينتصر و
البغي ينتصر
و هو يسخر من ذاك الإنسان الضعيف ..و يعلم أنه حتما سيقع في الخطيئه ..قد
يكون هذا لأحساس يوسف أدريس إنه أقوي من الأخرين أم إنه فعلا ضعيف
فالإنسان الأقوي سيحاول أن يجعل الأخرين في مرحله الضعف ..
و لكن ما أجزم به إنه لم يكن أبدا كاتب صنعه ..و غنه كان يكتب عندما كانت تواتيه أفكاره..
حقا كان يوسف ادريس قاسيا علي أبطاله....لماذا ؟!!!
هذا سؤال يحيرني لماذا كان معظم الكتاب العظماء شديدو القسوه علي أبطالهم و علي أنفسهم ...
إدجار الانم بو كان يجعل من أبطاله " مسخه " و اللي بيشتري يتفرج
عليهم...كان ينتقم منهم..فتاره هذا بطل تدور فوق رأسه سكين محاكم التفتيش
و ذاك بطل اخر يواجهه الموت حقيقه متمثلا في هيئه وباء...
هل كان يوسف أدريس ...متعمدا هذا ؟!!
هل تعمد تضييق الخناق علي نفسه؟!
أم كان يسخر من ضعف العقيده أم كان يري في نفسه هذا الضعف...؟!!
لا أملك غجابه ربما أجدها بينكم لكنني قررت أن لا أبحث كثيرا و قررت أن
أظل مستمتعا بإدب هذا الرجل و قصصه التي أتطلع إليها كتابين هم علي أرفف
مكتبتي بعنوان " الأعمال الكامله ليوسف أدري .." و كتب أخري تحدثت عن تلك
الأعمال و كتب ثالثه و رابعه تحدثت و تحدثت عن يوسف أدريس الذي كان يهوي
الكتابه ...و لم يك محترفا
باقي أن أقول كلمه شهيره ليوسف ادريس .....
" الكاتب روحه مغلفه بروح شعبه في مشنقه واحده أو في باقه حريه واحده "
لهذا يا نورماندي سيظل يوسف أدريس مبدعا ....و مبدعا للغايه .
.................................................. .......
يوسف إدريس
إبداع من نوع خاص لا تستطيع وصفه مهما حاولت
ولكن جميع قصص هذا الرائع المدهش لها مغزي و هدف
و إذا لم تفهم الهدف من القصه فما عليك سوي إعادة قرائتها
حتي تصل للهدف , أيا كان الهدف فليس بالضرورة أن يفهم شخصان نفس القصة
بنفس الطريقة و ذلك لشدة العمق و الأفكار المكثفة لأقصي درجة .
أما كما يقول كاتب المقال فإن يوسف إدريس هو أبو القصة القصيرة المصرية
و السبب أو السر في ذلك هو أنه في كل كتابته و أفكاره مغرق في المحلية إلي أقي مدي
و هذا من وجهة نظري الشخصية المتواضعه .
و لم يكن يوسف أدريس مجرد أديب كان يبحث أحد أدوار البطوله الأدبيه في
عصره قطعا لا فلقد كان يوسف أدريس ....بطل مطلق في هذا العصر الذي تناحرت
فيه عده قوي أدبيه...
و أكثر ما يثير حفيظتي أن هذا الرائع المدهش لم يحظ بالشهرة التي يستحقها
مثل نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس علي الرغم من أنه يحتل ترتيبا أعلي
منهما في مساهمته في الأدب و الموهبة و الأسلوب , و لكني أعود فأحمد الله
علي أنه لم ينل تلك الشهرة فيجد من يشوه أعماله
مثلما حدث في مأساة روايه " البيضاء " التي اغتالها جهابزة المسلسلات العربية فقتلوها بعدما شوهوها عن عمد و بلا استحياء .
أما سبب دعوتي له بالرائع المدهش فذلك لأنني كلما قرأت كلماته أصابتني
الدهشة سواء دهشة الصدمة أو الاستغراب أو الاستياء و لكن لا يهم , أما
كونه رائع فلأنه مهما كانت قصته صادمة أو تتعارض أحداثها مع الأخلاق فإنني
لا أستطيع أن أكرهها بل و أعجب بها بالرغم من رفضي التام لمحتواها !!!
و لهذا سيظل يوسف إدريس مبدعا رائعا مدهشا .