كشف رجال الآثار العراقيون عن بقايا جدران قديمة عند البر الغربي لنهر
دجلة، تعود الى ايام ابي جعفر المنصور (754 ـ 775)، ثاني الخلفاء
العباسيين، وعثروا على قطع فخارية في الموقع ذاته، تحمل اشكالا هندسية
دقيقة وكتابات بالخط الكوفي، بها اسم «عبد الله بن محمد»، وهو اسم الخليفة
المنصور.الاثريون وجدوا قطعا نقدية معدنية عام 157 للهجرة (من التاريخ الميلادي)
عليها اسم عبد الله بن محمد باني بغداد (مدينة السلام)، ويأمل خبراء
الآثار في ان يساعدهم هذا الكشف في التعرف الى الموقع الاصلي لعاصمة
الدولة العباسية، الذي اختفى عندما غير نهر دجلة مجراه ليغطي مدينة
المنصور القديمة.تمتد مدينة بغداد الحديثة على ضفتي نهر دجلة، وتبلغ مساحتها حوالي الف
كيلومتر ويسكنها خمسة ملايين نسمة، إلا ان المدينة التي بناها العباسيون،
كانت تقع في منطقة الكرخ على البر الغربي، بناها ابو جعفر المنصور (ثاني
الخلفاء العباسيين) منذ 12 قرنا على شكل دائري. خلفت الاسرة العباسية
الامويين في حكم الدولة الاسلامية، واستمر حكمها حوالي 500 سنة من 750 الى
1258. ويرجع نسب هذه الاسرة لبني العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي
محمد صلى الله عليه وسلم.وقد خلف العباسيون بقيادة ابي العباس السفاح، اخ ابي جعفر المنصور،
السلالة الاموية، ونقلوا عاصمة الخلافة الاسلامية من دمشق الى العراق، اذ
جعل ابو العباس عاصمته في مدينة صغيرة بناها بالقرب من الكوفة على البر
الشرقي من نهر الفرات، اطلق عليها اسم «الهاشمية»، الا ان الحاكم الذي
ارسى دعائم الدولة العباسية كان المنصور، الذي خلف السفاح بعد وفاته في
يونيو (حزيران) 754.كان ابو جعفر اخا لابي العباس من ابيه، الا ان امه سلامة كانت امة بربرية،
وعلم ابو جعفر بوفاة اخيه وخلافته له بينما كان عائدا من اداء فريضة الحج
في مكة المكرمة. وقد بنى المنصور عاصمة جديدة للعباسيين في موقع بغداد
الحديثة، على الضفة الغربية لنهر دجلة، سماها «مدينة السلام»، إشارة لما
ورد في سورة الانعام: «قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون. لهم دار السلام عند
ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون»، (الآيتان 126 و127).كذلك في سورة يونس: «والله يدعو الى دار السلام ويهدي من يشاء الى صراط
مستقيم»، (الآية 25). وكان اسم «مدينة السلام» هو الذي يسجل في الكتابات
الرسمية في الدواوين وفوق العملات النقدية، كما صارت عاصمة العباسيين تعرف
كذلك باسم «مدينة ابي جعفر» و«مدينة المنصور» او «مدينة الخلفاء» او
«الزوراء». واصبحت مدينة المنصور عاصمة للدولة العباسية خمسة قرون من
الزمان، ثم صارت مركزا للوالي العثماني الى ان اصبحت عاصمة لدولة العراق
الحديثة منذ سنة 1921.
ورغم ان المدينة الدائرية التي بناها المنصور غرب دجلة كانت تسمى «مدينة
السلام»، الا انها صارت تعرف بعد ذلك باسم بغداد، والسبب في ذلك ان مدينة
المنصور بنت في موقع بلدة قديمة كانت تسمى بغداد، منذ عصور حضارة ارض
الرافدين القديمة. واختلف المؤرخون في سبب اطلاق اسم بغداد على «مدينة
السلام»، التي بناها الخليفة العباسي الثاني، فذهب المقدسي في كتابه
«البدع» الى ان اسم بغداد اصله فارسي بمعنى «هبة الله» او «عطية الله»،
واتفق معه في ذلك رواة آخرون. وفضل فريق آخر من المؤرخين ارجاع اسم بغداد
الى اصل آرامي يعني «حظيرة الاغنام»، مستندين الى رواية اوردها الطبري
بوجود سوق للبقر في هذه المدينة، الا ان رجال الآثار عثروا على نصوص ترجع
الى العصور التاريخية القديمة، ورد فيها اسم بغداد، فهناك نص قانوني من
عهد حمورابي منذ حوالي 3800 سنة قبل قيام اي اتصال مع الفرس، يتحدث عن
مدينة «بجدادو»، كما وجدت كتابات اخرى بعد ذلك باربعة قرون، جاء بها ذكر
«ضاحية بجدادي»، وهناك حجر حدودي من عصر الملك مردوخ البابلي، أتى على ذكر
«مدينة بغداد»، وفي القرن الثامن قبل الميلاد يتحدث الملك الاشوري
تغلاتفلاسر الثالث عن «بجدادو»، كما ورد في تلمود الاحبار اليهود
العراقيين الذي كتب قبل بضعة قرون من عصر الدولة العباسية، اسم «بجداثا».
اما بغداد الحالية، فتطل على نهر دجلة، الذي يقسمها الى شطرين، الرصافة في
الشرق والكرخ في الغرب.