تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
علي الرعدون ابن افاميا ....
آراء
الأثنين 12-10-2009م
جلال خير بكفي غمار الأحداث التاريخية: تلمع شخصيات محلية تؤدي أدواراً جليلة، وتتوهج ذاتياً بعيداً عن دوائر الضوء التي كثيراً ما يعطي التاريخ للشخصيات الكبرى: الدور الرائد في ذلك الفلك، بينما هي بالأساس تتضافر لتصنع ذلك التاريخ وملامحه البارزة .
فالتاريخ بعامة هو تاريخ القادة والحكام الذين لولا تضحيات من يحيطون بهم لم ينالوا ذلك الألق وتلك الأهمية!!
.. فمن منا يذكر الشخصيات التفصيلية المحورية التي صنعت أمجاد الاسكندر المكدوني ويوليوس قيصر أو حتى ملاحم سبارتاكوس؟!
ومن نتحدث عنه اليوم هو واحد من تلك الشخصيات غير المحورية في خضم الأحداث التي أحاطت بمنطقتنا قبل الاستقلال.
.. ولعبت دوراً محلياً معروفاً في منطقتها.. وهي وإن غابت لا تزال المنطقة الوسطى والشمالية تذكرها بالخير.. هو علي الرعدون ابن افاميا ....ابن بلدة قلعة المضيق «أفاميا» عاش في أسرة ذات علاقة بالشعر المحلي والتاريخ والفنون.
تقع هذه القلعة على الطرف الشرقي لسهل الغاب وهي موطن الفارس الشاعر القائد أسامة بن منقذ.. وكانت فيما مضى ذات دور كبير خلال تاريخها الطويل. إذ لعبت دور «الأكربول» الروماني لمدينة أفاميا. ثم بناها «القلعة» العرب أثناء حروب الفرنجة: من حجارة سور أفاميا. وتشتهر هذه البلدة القديمة بمتحفها الحالي الذي كان معروفاً بأحد الخانات المبثوثة على طول طريق الحج بين الأناضول ومكة، والذي بناه المهندس المعماري الشهير سنان باشا.
أما عبد الله الرعدون ابن قلعة المضيق «أفاميا» فقد ولد وعاش فيها، واشتهر بشجاعته وكرمه وعناده ونضاله وتوفي في بلدته أواخر سبعينيات القرن الماضي بعد أن عاش أكثر من مئة عام وشهد أحداث الحرب العالمية الأولى وعهد الاستقلال وعهد الوحدة وثورة الثامن من آذار.
وكان هذا الرجل علامة فارقة في بلدته ومنطقته. إذ عركته الأحداث وتكيف معها حتى صار يكيفها.. عاشها بحلوها ومرها: شاباً وكهلاً.. كان فتياً عندما سيق مجنداً في الجيش العثماني أثناء «سفر برلك» حيث اشترك في معارك كثيرة حكاها ووصفها للأجيال من بعده، إذ كانوا يتحلقون حوله على سطح المنزل في ليالي الصيف المقمرة ليستمعوا ويستمتعوا بتفاصيل ذكرياته ويهللوا حين يسرد لهم ما جرى معه على شاطئ غزة عندما هاجم الإنكليز فلسطين: حيث «حفرنا الخنادق وتمركزنا وتهيأنا للقتال وقتما كانت سفنهم تقترب من الشاطئ أمام أعيننا، وما إن نزلوا مطمئنين حتى فتحت عليهم نار جهنم وأبيدت هذه الحملة البريطانية».
لكن ذكرياته تستمر إذ يقول: والأهم من ذلك معاركنا مع الفرنسيين هنا في ديارنا وعلى أرضنا، فقد جاؤونا مدججين بالسلاح بعد انسحاب الأتراك من بلادنا، وكان الواجب يدفعنا إلى التصدي لهم وعرقلة تقدمهم ما أمكن، فتنادينا من هنا ومن القرى المجاورة، واجتمعنا بانتظار الحملة الفرنسية القادمة من جسر الشغور ونصبنا لها كميناً على سفح الجبل فوق «عين الطاق» حيث الممر إجباري وضيق لا يتسع لأكثر من فارسين متلاصقين وهي المسافة بين طرف الجبل والبحيرة، وما إن صار الهدف أكيداً حتى أعطيت الإيعاز ببدء الهجوم فأطلقنا النار وتدحرجت صخورنا غاضبة لتحط فوق رؤوس الفرنسيين وتتكوم حتى سدت الطريق من أمامهم وانسحبنا دون خسائر تذكر والذين عاشوا منهم «الفرنسيون» ظلوا أياماً عديدة يلملمون قتلاهم ويضمدون جراحهم ويعملون على إزالة الصخور من أمامهم.
وبعد أيام تابع الفرنسيون زحفهم فطوقوا قلعة المضيق وجرت هناك معركة حقيقية، فهم لا يستطيعون الصعود زاحفين أو راجلين، وكنا موزعين على السور من جميع جهاته نرصد تحركاتهم ونمطرهم بالرصاص، ولما عجزوا عن اجتياز المضيق وهو الدرب الوحيد المؤدي إلى القلعة: «إذ كان ضيقاً ومتعرجاً لا يسمح لأكثر من فارس واحد بعبوره فكيف لعربات المدافع والمؤن؟!».
عندها اضطر الفرنسيون لتفجير المضيق وتوسيعه ثم تدفقوا إلى أعلى الطريق، وانتشروا حول القلعة من جهتي الجنوب، وعلى البيدر راحوا ينصبون مدافعهم الثقيلة، وهنا قررنا نحن المقاومين أن ننسحب منها خوفاً من قصفها وتدميرها فوق رؤوس أهلنا، وانسحبنا تحت جنح الظلام من السور الشمالي باتجاه الجبل ومن ثم توزعنا في قرى جبل الزاوية وهنا تعرفت بابراهيم هنانو لأول مرة.
وتكررت لقاءاتي معه حتى إذا كان ذات يوم فوجئت به وببعض مرافقيه يدخلون المضافة، إذ كنت مختار القرية.. وقتها قال لي: يا علي ما جئتك إلا لأمر هام وأنت لها. قلت: لعينيك.. قال: أريد أن ألتقي الشيخ صالح العلي. فابتسمت وقلت: هذه بسيطة دع الأمر لي.. ابق أنت وصحبك هنا في المضافة وغداً أو بعد غد سيكون لك ما تريد.
ومع خيوط الفجر الأولى هيأت نفسي وركبت فرسي وذهبت جنوباً حتى مصياف. ومن هناك عبرت الجبل الغربي صعوداً ونزولاً حتى قرية الشيخ بدر حيث يقيم الشيخ صالح العلي الذي قابلني بكل ترحاب.. وفي صباح اليوم التالي عدنا وكنا ثلاثة: الشيخ صالح وأحد مرافقيه وأنا. وفي مضافتي كان اللقاء رائعاً، فقد تعانق الزعيمان الثائران الشيخ صالح العلي وابراهيم هنانو عناقاً طويلاً وكانت فرحة لا توصف، راحا بعدها يعدان العدة ويضعان الخطوط العريضة لإعلان الثورة.
تلك بعض ملامح حياة علي الرعدون كما رواها أهله وأحفاده كثائر ومناضل بعد أن عاش أحداثاً كبيرة مرت على سورية وكان عنصراً هاماً في العديد منها، إذ لعب دوراً بارزاً في تواصل ثورة جبل الزاوية بقيادة ابراهيم هنانو والثورة الساحلية بقيادة الشيخ صالح العلي.. ودوراً في توحيد الثورتين بما كان يوفره وثوار منطقته من تواصل وتواشج حتى غدتا مع ثورة جبل العرب والغوطة عماد الثورة السورية الكبرى.
كما كحّل عينيه قبل الممات برؤية فجر الاستقلال يسطع في سورية ويرى «شكري القوتلي» يُنصّب رئيساً للجمهورية السورية.. ثم يشهد بعدها فجر الوحدة وفجر ثورة آذار.. ويعيش أيضاً فرحة وروعة الانتصار في حرب تشرين التحريرية التي أعادت للإرادة العربية قوتها وثقتها بأن العرب حين يتوحدون يحققون المعجزات المستحيلة.
وقد رافق عبد الله هذا في مسيرته: ثوار ومناضلون أمثال محمد الرعدون ورفعت رشيد الثائر الذي سجن مع شكري القوتلي في جزيرة أرواد إبان الاحتلال الفرنسي وانتفاضة السوريين ضده دفاعاً عن استقلال بلادهم.