التلفزيون
هو النجم الساطع خلال الشهر الفضيل، لدرجة أن سطوعه أكبر من سطوع هلال
رمضان، وربما لا يباريه في السطوع إلا نجم لمعان السمن البلدي المعتبر على
صحن الهريس.لقد توغل ذلك الصندوق الأسود في حياتنا، فلم نعد نستغني
عنه، خصوصا أنه عودنا على أن يعرض علينا كل عجائب الدنيا، وينقلنا من مكان
إلى مكان، دون أن نبارح مقاعدنا، فصار شغلنا الشاغل، لدرجة أنه صار يشغلنا
حتى عن أعز الناس إلينا في الوقت الذي نرى فيه بقية خلق الله ينصرفون في
هذا الشهر إلى أعمالهم وإنتاجهم الذي ينفع البلاد والعباد.لقد
تكالبت علينا الفضائيات وتكاثرت كالفطر المسموم، وأثقلت علينا الهموم ولم
تترك لا سائلا ولا محروما إلا ودخلت بيته دون استئذان، ليس حبا ولا رغبة
في تسلية الصائمين، بقدر ما هو سعي لضمان نصيب من الكعكة الإعلانية خلال
الشهر الكريم..
هل يعقل أن يكون ذلك جزءا من مؤامرة كبرى تبث عبر الأشعة المنبعثة من شاشة
التلفاز، وإذا كان الأمر كذلك فمن وراء تلك المؤامرة، إذا كانت تلك الأشعة
تبث في كل مكان فوق سطح الأرض، ترى هل يقف وراء المؤامرة مخلوقات فضائية
تعمل على تغييب الوعي عن الجنس البشري كما علّمنا وكرر علينا هذا الجهاز
العجيب؟ لا
أؤمن بنظرية المؤامرة، غير أنني أؤمن بانحدار الذوق العام بسبب الإفرازات
المجتمعية وتعقيدات الحياة العصرية، لدرجة أنني ومنذ أول يوم في رمضان
وجدتني مثل غيري ممن ابتلوا بهذا الجهاز العجيب في حيرة وحسرة وندامة،
تماما كما يحدث لي كل عام في الشهر الفضيل، فكم عدد أجهزة التلفزيون التي
يجب أن أشتريها لأتمكن من مشاهدة كل تلك المسلسلات التي تعرض في نفس الوقت
طوال الشهر الكريم؟ واكتشفت أنني لا أملك الوقت أصلا لأشاهد كل
ذلك الكم من الدراما التي لا تسمن ولا تغني من جوع أو عطش، غير أنني مع
ذلك أحاول تحديد خياراتي والخروج من الحيرة باتخاذ قرارات مصيرية لتحديد
ما الذي يجب أن أشاهده أو أهمله، خصوصا أن كل المعروض يصبح مشوقا وممتعا
كلما تعقدت الحبكة الدرامية بتتابع الحلقات يوما بعد يوم. غير أنه لو
تمعنا في مهرجان الدراما الذي يستمر طوال الشهر الكريم، فلن نجد شيئا
يستحق فعلا أن نضيع عليه كل الوقت الذي نخصصه للمشاهدة، فالبرامج والمسلسلات كثيرة ومتنوعة، لدرجة أنها تصيبك بالتخمة تماما كما تصيبني التخمة كل يوم بعد الإفطار.وبرغم
مما فيها من تسلية ربما وتقصير «دوب»، وإلهاء للصائم عن الصلاة والقيام،
وربما عن العطش والجوع، غير أنها تصيب المشاهد بالعقد وبالأمراض النفسية
لأن فيها قصصاً محزنة ومنكدة وفيها قصص عن التفكك الأسري الذي يصور
مجتمعاتنا الخليجية بأنها مفككة لآخر درجة، وفيها مشاهد تعاطي الخمر
والرقص والتدخين، فماذا نجني غير الآثام وخصوصا عندما نشاهدها في نهار
رمضان ولياليه؟.وأستغرب أنه برغم الانتقادات التي تواجهها هذه
المسلسلات بعد انتهاء الموسم في كل عام، تتكرر الأخطاء نفسها في العام
الذي يليه ونرى القصص نفسها والمشاكل نفسها، وكأن المجتمعات العربية
مجتمعات محنطة لا تتطور ولا تحيا لتغذي الدراما بقصص جديدة، ولا أعلم إن
كان العيب في المجتمعات أم في الإفلاس الفكري الذي يعانيه كتاب الدراما
العربية.وربما يحتاج علماء الاجتماع إلى دراسة ظاهرة مهرجانات
الدراما السوداء خلال شهر الرحمة والعتق من النار، إن ذلك يشبه جلد الذات،
وكأن صناع تلك المسلسلات لديهم عقد نفسية أو نوع من السادية، فيستمتعون
بتعذيب المشاهدين بدراما حزينة كئيبة، والغريب أن شركات الإعلان تجد في
ذلك مصدر دخل ممتاز، هل هذا يعقل، هل يعقل أن نعيش في مجتمعات بهذه
السوداوية؟ وهذه الانتهازية؟لم يبق لي إلا تقديم الاعتذار للشهر
الكريم ولقدسيته، فقد حولناه إلى مهرجان للربح والتسلية على حساب أمور
إنسانية أهم، نسأل الله ألا يجعل للتلفزيون علينا سلطانا، ويعيننا على
الصيام والقيام ويبارك لنا في شهر رمضان.