يظلُّ تحويلُ
القِبلة حدثًا فارقًا في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة، ومسيرةِ بناء الدولة
المسلِمة كذلك.
لقد
كان الرسول متشوِّقًا لتحويل القِبلة من المسجد الأقصى إلى بيت أبيه إبراهيم
-عليه الصلاة والسلام- في مكَّةَ، ويقول الله تعالى: {قَدْ
نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
وهكذا بعدَ ستة عشر، أو
سبعة عشر شهرًا من الهِجرة يتمُّ تحويل القِبلة؛ أي: بعد ثلاث سنوات ونصف تقريبًا
من فَرْض الصلاة في الإسراء والمعراج.
ظلَّ المسلمون هذه السنوات
الثلاث يصلُّون إلى بيت المقدس -الذي كان قِبلةَ اليهود- ولعلَّ الله
قدَّر ذلك لاختبارِ المؤمنين في صِدْق إيمانهم، وكشْف زيف اليهود، كما ستجري
الأحداثُ بعد ذلك.
صلَّى
المسلمون إلى بيْت المقدس طاعةً لأمر ربِّهم I، أمَّا اليهودُ فقد رأَوْا في ذلك محاولةً من النبي للتقرُّب
منهم، والحصول على الشرعيَّة له، وهكذا سوَّل الشيطان لهم، فاستبشروا، وقالوا:
اتَّبع قِبلتَنا، وعمَّا قريب يتَّبع دِينَنا.
لذا تخيَّل اليهود أن
النبي يمكن أن يكون مثلهم؛ فيخون أمانةَ ربِّه I ويُخالِف أوامره، ويكتب الكتاب بيديه، ثم يقول: هذا مِن عند الله،
كما فعلوا ويفعلون، وتخيَّلوا وتوهَّموا، ولكن ذهبتْ أوهامُهم وخيالاتهم أدراجَ
الرِّياح، ورجعوا بخُفَّيْ حُنين.
لقد
صلَّى النبي لبيت المقدس طاعةً لربه، وعندما صام عاشوراء، لم يكن ذلك اتباعًا
لليهود، وإنما قال: "نحن أولى بموسى منهم"؛
فموسى -عليه السلام- على دِين الإسلام كالنبي سواءً بسواء.
ومن ثَمَّ جاء
تحويلُ القِبلة، لا كمجرَّد حَدَثٍ عارض في التاريخ، وإنَّما جاء كحدٍّ فاصل بين
الأمَّة الإسلاميَّة، والأمم السابقة عليها، وخاصَّة اليهود الذين حرَّفوا الكتاب،
وبدَّلوه.
جاء
تحويل القبلة يؤسِّس لمبدأ (التمايز)؛ أي: تمايز الأمَّة المسلِمة عن غيرها في
كلِّ شيء: في الرِّسالة، والتشريع والمنهج، والأخلاق والسلوك، وقبلَ كلِّ ذلك
التمايز في التصوُّر والاعتقاد.
لقد تخطَّى الحدثُ حدودَ
الزمان؛ ليُلقي بظلاله على أيَّامنا؛ فلقد قال الرسول : "لتَتبعُنَّ سَنَنَ مَن
كان قبلكم شِبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع؛ حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه".
قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟!"؛
أي: فمَن غيرهم؟!
عَلِم الله -تعالى- وأخبر
رسوله أنَّ كثيرًا من أبناء الأمَّة الإسلاميَّة في فترات ضَعْفهم، وسقوط
حضارتهم، سيذوبون في الحضارات المنتصرة عليهم، مهما كانت ماديَّة وغير مُسلِمة؛
لذا أخبرنا الرسول بذلك الحال المستقبلي لنتجنَّبَه.
إنَّ
مظاهر الذوبان، وعدم التمايُز كثيرةٌ اليومَ بين صفوف المسلمين؛ تُشاهِدُها في
ابتعادهم عن لُغة القرآن، وتعلُّقهم باللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية،
وليست المشكلة في الحرص على تعلُّم الإنجليزية وغيرها؛ ففي زمان الضَّعْف هذا
صارتْ هي لغةَ العِلْم والحضارة، ولكن المشكلة في ابتعادنا عن لُغتنا الأم، حتى
صارتْ أسماء المحالِّ أجنبيَّة، وصارتْ لُغة الحياة اليوميَّة مشحونة بالألفاظ
الأجنبيَّة، وصار مَقامُ الفرد في عين مُحدِّثيه يُقَيَّم بعدد المصطلحات
الأجنبيَّة التي يستخدمها.
وكذلك
نرى مظاهرَ الذوبان في شكل الملابس، وأنماطِها؛ فالظواهر الشاذَّة كالبِنطال
الساقط وغيرِه انتقلتْ إلينا بسرعة من الغرْب، ولم تجد من كثير من الشباب إلاَّ
الترحيب، بينما خفتتِ الأصواتُ المستنكرة لها شيئًا فشيئًا، كعادتنا في زمن
الضَّعْف، وغير ذلك من المظاهر كثير.
إنَّ
الأمم التي تُريد أن تنهض لا بدَّ أن يكون التمايز مكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّنات
مشروعها الحضاري النهضي.