مــن أركــان عقيــدة المـؤمــن
الإيـمـــان بالملائـكـــة
=======================
قبل البحث في هذا الركن من أركان العقيدة نقدم بيان الحقائق الثـلاث التاليـة :
الأولى : أن الكون كله ينقسـم إلى غيـب ,, وشــهادة .
فالغيب : ما غـاب من الموجودات عن أعين الناظرين ,, وإن كانت حقيقة مخصلة في صدورهم لا تغيب عن خواطرهم وذلك ككل الموجودات الأرضيـة والســماوية ..
والشـهادة : خلاف الغيب وهي كل ما كان من الموجودات أمام نظر الإنســان يشـاهده ويراه ,, أو كان بحيث يدركه بإحدى حواسه التي هي الســمع , والبصـر , واللمـس , والشــم , والذوق
الثانية : أن الإنسـان بحكم طبيعة الحياة مقدر له الإيمان بالغيب مفروض عليه
,, لا يسـتطيع التخلص منه بحال من الأحوال اللهم إلا إذا سَـفِه نفسه ,, وأراد التخلي عن كرمته الآدمية ,, وعن شرفه الإنساني ليصبح بعد ذلك حيوانا هابطا لا خير فيه ,, أو آلة صماء لا وعي لها ,, ولا إدراك !!! وذلك لأن الإنسان كائن متحيز متى وُجد في مكان استحال عليه أن يوجد في مكان آخر مع بقائه في مكانه الذي هو فيه ,, ومن هنا ستصبح سائر الأمكنة التي تخلو منه بعده عنها غيبا له ,, وليست بشهادة عنده ولا بد له من أن يؤمن بها ,, وبما فيها من أشياء جواهر وأعراض ,, متى وجدت آثار تدل على ذلك ,, أو أخبار صادقة تنبىء به ... ثم إن حواس الإنسان التي يحصل له العلم بها محدودة القوة محصورة الإدراك في مجال معين لا تتعداه ,, فسمعه مقيد في السماع بالأصوات العالية فإذا انخفضت إلى درجة معينة تعذر عليه أن يسمع ,, وبصره مقيد برؤية الأجسام الكبيرة فإذا صغرت ودقت وبلغت حدا معينا من الصغر والدقة عجز عن رؤيتها ,, ولمسه كذلك فإنه يحس بالأجسام الكثيفة ,, فإذا خفت انقطع إحساسه بها ,, وحتى عقله فإنه يكل عن إدراك أشــياء معقولة ,, ويعيا عن تصورها تماما
من هنا كان لا بد للإنسان من الإيمان والتصديق بأشياء لم يشاهدها ولم يحس بها بأية حاسة من حواسه ولم يدرك حتى تصورها بعقله ولا خيار له في ذلك إذا أراد أن يقيم لكرامته وزنا ولقيمته قدرا من الاحترام والتقدير وكيف تُنكر
هذه الحقيقة ونحن نرى أن الإنسان يعيش في بلد ما ولم يخرج منه أبدا وهو يؤمن بعشرات البلاد ويصدق بوجودها وهو لم يرها ولم يـر مـن رآهـا قـط كما نرى إنسانا آخر لم ير الفيل طول حياته وهو يؤمن بوجود هذا الحيوان الذي لم يره ولم ير من رآه أبدا ونرى ثالثا يؤمن بالجاذبية إيمانا جازما ومن المعلوم أن الجاذبية مما لا يُرى ولا يشاهد أبدا
ونجد رابعا وُلد ولم يعرف والده لموته قبل ولادته وهو يؤمن بأن له والدا ولا ينكر ذلك بحال ,, ولذا كان من المضحكات
أن يدعى إنسان أنه لا يؤمن بالغيب أو أنه يستطيع أن يعيش في هذه الحياة بدون الإيمان بالغيب
الثالثـة : أن الإنسـان يكتسـب علمه بالموجودات عن طريق عقله وحواسه معا
, فبعقله يدرك سائر التصورات العقلية وبالحواس يدرك سائر الماديات من مرئي ومسموع ومحسوس ومشموم ومطعوم ,, فبالعقل أدرك فضيلة الصدق ورذيلة الكذب وبالعقل أدرك المستحيلات ككون الشيء إذا وجد في مكان لا يوجد في غيره , والواجبات ككون الجسم لا بد له من حيز يشغله وككون المصنوع لا بد له من صانع ,, والجائزات ككون المريض قد يشفى وقد لا يشفى والغائب قد يعود وقد لا يعود
وبحاسة البصر أدرك المرئيات أطوالها وأعراضها وصفاتها ,,, وبالسمع أدرك الأصوات وفرّق بينها وأدرك الأخبار ومدلولاتها وبالذوق أدرك سائر الطعوم وعرف حلوها ومرها وحامضها وسامجها ,, وبالشم أدرك سائر الروائح طيبها وكريهها وباللمس أدرك الأجسام وفرق بين خشنها وناعمها وخارها وباردها
هذه طرق اكتساب الإنسان لعلومه ومعارفه ( العقل والحواس ) وهو مستعد دائما للحصول على المعارف بواسطتها إن الإنسان يتعقل الشيء ثم يصدر حكمه عليه بالإثبات أو بالنفي , بالوجوب أو الاستحالة أو الجواز ,, وينظر إلى الشيء فيحكم عليه بالطول أو القصر , بالبياض أو السواد ويسمع الصوت فيحكم بأن المسموع صوت كذا وكذا ... الخ
وهكذا يتحصل الإنسان على معرفته بالموجودات بقسميها : الغيب والشهادة بواسطة العقل والحواس بيد أن ما كان من الموجودات غيبا محضا فإن طريق الحصول علة معرفته والإيمان به هو السماع به أو مشاهد آثاره الدالة عليه
فالمرء إذا أخبره أحد أن فلانا مات , أو سافر , أو قدم من سفر , وكان بعيدا عنه لا تمكنه رؤيته حصل له العلم بحاله من موت أو سفر أو قدوم منه ,, حصل بواسطة الخبر الذي تلقاه عن غيره من عقلاء الناس ,, والمرء قد يمر بأرض فيجد بها سيولا تجري , وشعابا طافحة بالماء فيعلم فورا أن مطرا قد نزل بتلك الأرض ,, وإن لم يشاهد نزوله ولم يخبره بنزوله أحد ,, وإنما حصل له علم به بواسطة الأثر ,, وهو سيلان الأودية وامتلاء الشعاب ,, وقد يمر الإنسان بمكان ما فيشم روائح طيبة فيعلم أن هناك عطارا , أو أشجارا من ذوات الروائح الطيبة ,, وإن لم ير ذلك بعينه ,, ولم يخبره به أحد من الناس ,, وهكذا يؤمن الإنسان بالغيب , ويحصل فيه على اليقين الكامل بواسطة خبر الثقات , أو آثار الأشياء التي آمن بها , وصدق بوجودها لدلالة آثـارهــا عليــها
ومن هنا كان الإيمان بوجود الملائـكــة أمرا معقولا ,, ومطلبا سهلا ميسـورا ,, فالملائـكــة وإن كانوا غيبا فقد دل على وجودهم الدليل الذي تثبت به كل الموجودات الغيبية عند الإنسان ,, والذي هو خبر الثقات , وآثار الموجودات , ونزيد هذه الحقيقة توضيـحــا فنـقــول :
أليس الإنسان العاقل يخبره ذو صدق بحدوث كذا أو كذا من الممكنات فيصدقه في خبره , ويعتقد صحة ما أخبره به ؟
أليس الإنسان العاقل يسمع صوتا بعيدا عنه لم ير مصدره فيؤمن بذي الصوت , ويصدق بوجوده كأنه رآه وشاهده ؟
أليس الإنسان العاقل يجد كرسيا قد وضع في غرفة فيعلم أن هناك أحدا قد وضع هذا الكرسي وأعده للجلوس عليه وإن لم ير من فعل ذلك ؟ أليس الإنسان العاقل إذا رأى كتابا يعلم فورا أن هناك أحدا أملى هذا الكتاب وأن آلة قد طبعته ولا يشك في ذلك ولا يتردد أبدا ؟
وحصول هذه التقنيات له كانت كلها من طريق الخبر والأثر ,, وهما الدليل العقلي للإيمان بكل الغيوب ,, ولهذا سوف نتكلم عن الملائكة بملء الفم ونقرر أن وجودهم يقيني ,, وحقيقة ثابتة لا يقوي عاقل على إبطالها أو نفيها ,, أما الذين كفروا بربهم وتنكروا لعقولهم وهبطوا من سماء كرامة آدميتهم فأصبحوا لا يؤمنون بشيء حتى بوجودهم فإنا لا نقيم لهم وزنا آمنوا أو كفروا صدقوا أو كذبوا ,,, وهذا هو دليل وجود الملائكة عليهم السلام وهو الدليل الذي قدمنا أنه بواسطته آمن العقلاء بكل غيب تعذر أن يكون من قسم الشهادة , والدليل كما سبق أن عرفناه يتكون من عنصرين : الأول : الأخبار , والثاني : الآثـار
الإخبـــــار
أولا : أخبار الله تعالى رب العالمين وخالق الملائـكــة والجن والناس أجمعين وكفى بما يخبر به تعالى دليـلا إذ الخالق أعلـم بـمــا خلـق ,, ومن إخبــاره تعالى قــولــه :
(( وإذ قـال ربـك للملائـكــة إني جاعــل في الأرض خليفــة قـالــوا أتجعل فيها من يفســد فيها ويســفك الدمــاء ونحـن نســـبح بحمـدك ونـقــدس لك ))
فقد تضمن هذا الخبر وجود الملائكة ومخاطبة الله تعالى لهم ومخاطبتهم له سبحانه وتعالى وهو دليل قاطع على وجود الملائكة .
وقــولــه تـعـالـى :
(( وإذ قلنا للملائـكــة اسجـدوا لآدم فسـجدوا إلا إبليـس أبى واسـتكبر وكان من الكـافـرين ))
ففي هذا الخبر أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم , وأنهم سجدوا إلا إبليس أبى وهل يؤمر ويمتثل غير موجود ؟!
وقـولـه تـعـالــى :
(( لن يسـتنكف المسـيح أن يكون عبـدا لله ولا الملائـكــة المقـربــون ))
ففي هذا الخبر أن الملائكـة المقربين لا يستنكفون من عبادة الله ولا يستكبرون وهل يستنكف ويتكبر غير موجود ؟؟
وقـولـه تـعـالــى :
(( وجعلــوا الملائـكــة الذين هـم عبـاد الرحمـن إنـاثـا أشـهدوا خلقـهــم ))
وفي هذا الخبر ينكر تعالى ,, ويعيب على المشركين دعواهم أن الملائكة إناث حيث قالا ما ليس لهم به علم ,, فهل يعقل أن يعاب أو ينــكـر على غيــر موجــود ؟
وقـولـه تـعـالــى :
(( وكم من ملك في السماوات لا تغني شــفاعتهم شــيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشــاء ويـرضــى ))
ففي هذا الخبر أن كثيرا من الملائكة لا تغني شفاعتهم عن أحد شيئا ,, وهل يشفع أو لا يشفع غير موجــود ؟
وأخيــرا فهل هذه الأخبار الإلهية عن الملائكة وهي كثيرة جدا ,, وكلها تتحدث عن صفاتهم وأحوالهم وعباداتهم وأعمالهم لا تدل على وجود الملائـكــة ,, دلالة تُكـســب اليقيـن ,, اللهم بلى
ثانيــا : أخبار الرسـل عليهم الصلاة والسلام , وتحدثهم عنهم , ووصفهم لهم , وتلقيهم الوحي بواسطتهم وهي كثيرة فلنكتف منها بما تواتر عن خاتم الرسـل وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم قوله : ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صـورة ) ,,, وقوله : ( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنـو آدم ) , وقوله : ( إن لله في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام ) وقال : ( إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن , فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ,,, وكان يقول في دعائه : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل , فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة , أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون , إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشــاء إلى صــراط مســتقيـم )
كما أخبر صلى الله عليه وسلم ,, وتحدث عن ملك الموت وأعوانه , وعن الروح وعن ملكي القبر , وعن الحفظة والكرام الكاتبين , وعن رضوان خازن الجنان , وعن مالك خازن النيران , وغيرهم من الملائكة في أحاديث متواترة صحيحة , فكيف يسوغ عقلا , أو يصح منطقا وذوقا أن تبلغ الإنسان هذه الأخبار الإلهية والنبوية , وهي أصح خبر في الوجود ولا يؤمن بالملائكــة ولا يصـدق بوجــودهــم ... اللهم لا ! ؟
الآثـــــار
آثار الملائكة الدالة عليهم دلالة قطعية كثيرة جدا نكتفي بطرف منها فنقول : هذا القرآن الكريم كتاب الله بين أيدينا سوره العديدة وآياته الكثيرة , وعلومه ومعارفه وإعجازه أثر من آثار الملائكة إذ تلقاه المنزل عليه صلى الله عليه وسلم بواسطة ,, ولم يكن من الله مباشرة فما هي الواسطة ؟ إنها جبريل عليه السلام كما أخبر بذلك مرسله ومنزله في قوله : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبـك لتكــون من المنـذرين بلســان عربـي مبيـن )
وهذا ملك الموت الذي يتخطفنا يوميا فيأخذ أرواحنا ,, وينهي بأخذها حياتنا ,, ويفصلها عن أجسامنا فتعدم الحياة فهل يشترط للتصديق به رؤيتنا له ؟ وآثار فعله فينا لا تنكر ؟ اللهم لا .. ولو سألنا خالقنا وقلنا من يتوفانا ؟ لكان الجواب :
(( قل يتوفاكــم ملك المــوت الذي وكـل بكـم ثم إلى ربكــم ترجعــون ))
ثم إن كلا من جبريل وملك الموت عليهما السلام قد رؤيا عيانا غير مرة وهما من أعاظم الملائكة فجبريل قد دخل مرة المسجد وعشرات المصلين حاضرون ,, فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس فجلس إليه , وأسند ركبتيه إلى ركبتيه , ووضع يديه على فخذيه , وأخذ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجيبه , فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان وأشراط الساعة ,, وكان ساعتئذ في صورة رجل ,,, كما أن ملك الموت قد تواترت الأخبار برؤيته عند دونه من المريض لقبض روحه ,, فكم من مريض تحدث بذلك , وأخبر به قبل وفاته بفترة زمنية ثم يمــوت
وبعد فإنه لم يبق بنا حاجة إلى سرد المزيد من الأدلة على وجود الملائكة , فلذا نشرع الآن في تقرير كون الإيمان بالملائكة ركنا من أركان عقيدة المؤمن فنقول : لقد ذكر الله تعالى أركان العقيدة الإسلامية في عدة آيات من كتابه وذكر من بينها عقيدة الإيمان بالملائكة وذلك في قوله تعالى : (( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكــة والكتــاب والنبيـن )) ,,, وفي قوله : (( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسـله )) ,,, وفي قوله : (( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيــدا ))
كما ذكر الرسـول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المعروف بحديث جبريل أركان الإيمان الستة وذكر من بينها الإيمان بالملائكة وأقره جبريل عليه السلام على ذلك ,, وصدقه إذ كان هو السائل له في محضر مئات الصحابة وهو في صورة رجل , وبعد انصرافه أعلن الرسـول صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن السـائل كان جبـريـل عليه السلام
وبهذا كان الإيمان بالملائكة ركنا من أركان عقيدة المؤمن التي لا تتم إلا به ,, وكان من شـك فيه ,, أو حاول التشـكيك كاذبا لا حظ له في الإســلام ,, ولا مقام له بين المسـلمين ,, لتكــذيبه لله تعالى ,, ورسـوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولإنكــاره لقضــايـا العقــول ,, ومســلماتـها البـديهيــة